0844409c-bffe-4536-a735-52bae26b425a-1

في تاريخ سوريا الحديث، لم تكن الجغرافيا وحدها من شكّلت ملامح البلاد، بل كان الإنسان، بهويته القبلية وانتمائه العميق لأرضه، هو العنصر الأهم في بناء الدولة والمجتمع. ومن بين أبرز التكوينات الاجتماعية التي لعبت دوراً محورياً في هذا السياق، تبرز قبيلة العقيدات، كأحد أعمدة البنية العشائرية في شرق سوريا، وتحديداً على ضفاف الفرات في محافظة دير الزور.

قبيلة العقيدات، بكل ما تحمله من تشعبات عشائرية وتحالفات تاريخية، لم تكن يوماً كياناً منعزلاً عن حركة الدولة السورية، بل كانت فاعلاً رئيسياً في تحولات البلاد الكبرى، منذ العهد العثماني، مروراً بالانتداب الفرنسي، ووصولاً إلى مرحلة الاستقلال. وقد عُرفت هذه القبيلة بنزعتها نحو الكرامة والاستقلال، وسعيها الدائم لفرض حضورها على مسرح الأحداث، سواء من خلال السلاح حين اقتضى الأمر، أو عبر الامتداد الاجتماعي والسياسي في قلب المدن الكبرى، مثل دمشق.

تحركات عشائر العقيدات – وعلى رأسها البوخابور، البوسرايا، والشعيطات – نحو الغوطة الشرقية وعدرا وريف دمشق، لم تكن مجرد نزوح عابر أو هجرة اضطرارية، بل شكّلت بداية لامتداد تاريخي واجتماعي طويل، كان له دور كبير في تشكيل هوية تلك المناطق وتنوعها. كانت هذه التنقلات تعبيراً عن حيوية العشائر وقدرتها على التكيف مع المتغيرات، دون التفريط بجذورها أو التنازل عن إرثها.

ولم يكن الحضور العشائري مقتصراً على البعد الاجتماعي، بل دخل في عمق الحراك الوطني، حيث قاومت عشائر العقيدات، وعلى رأسها البوخابور، الاحتلال الفرنسي في معركة الشروفية سنة 1920، وشاركت في الثورة السورية الكبرى، وبرز منها قادة تاريخيون، أمثال رمضان باشا الشلاش، الذي سجّل اسمه في سجل النضال السوري، انطلاقاً من دير الزور وصولًا إلى مراكز القرار في العاصمة.

هذه السيرة، التي تبدأ من الفرات ولا تنتهي عند بردى، هي حكاية وطن كتبه أبناؤه بالحبر والدم، وبالانتماء الصادق إلى الأرض والتاريخ.

قبيلة العقيدات: النشأة والتكوين

تُعد قبيلة العقيدات من أكبر القبائل العربية في سوريا، وتنتشر بشكل رئيسي على ضفتي نهر الفرات في محافظة دير الزور. تتألف القبيلة من عدة عشائر رئيسية، لكل منها تاريخها ومكانتها:

البوخابور: تضم أفخاذاً مثل البومعيط، البوعمر، والبوحليحل. تنتشر هذه الأفخاذ في قرى موحسن، البوعمر، والمريعية.

البوسرايا: تتألف من أفخاذ البوعزام، البوعز الدين، البوشعيب، البوحمد، العفيشات، البومطر، البوذياب، الموسى، والبو محمد. تسكن هذه العشيرة مناطق الشميطية، الخريطة، والقرى المحيطة بدير الزور.

البوكمال: تضم عشائر مثل الحسون، البومريح، والدميم، وتتمركز في مدينة البوكمال وريفها.

البوحسن: تنتشر في قرى سويدان الشامية والمناطق المجاورة.

الشعيطات: تسكن في قرى الكشكية، أبو حمام، وغرانيج.

البكير: تتواجد في ريف دير الزور الغربي.

تُظهر هذه التركيبة العشائرية تعقيد النسيج الاجتماعي للعقيدات، حيث تتداخل الروابط القبلية مع التحالفات التاريخية.

التحركات السكانية نحو الغوطة وريف دمشق

في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، شهدت بعض عشائر العقيدات تحركات نحو مناطق الغوطة الشرقية وريف دمشق. دفعتهم إلى ذلك عوامل متعددة، منها البحث عن الأراضي الزراعية الخصبة، وتجنب النزاعات القبلية، والانخراط في التحولات السياسية التي شهدتها تلك الفترة.

المقاومة ضد الاستعمار: البوخابور والبوسرايا نموذجاً

ثورة البوخابور

برزت عشيرة البوخابور في مقاومة الاستعمار الفرنسي. في 19 أكتوبر 1920، رفضت العشيرة دفع الضرائب للسلطات الفرنسية، مما أدى إلى اعتقال عدد من وجهائها، منهم حمود العلي الشيخ، عبد الله الأهلص، خزام العساف، عبيان الجنيد، وهندي المحمد. رداً على ذلك، اندلعت مواجهات عنيفة بين مقاتلي البوخابور والقوات الفرنسية، أظهرت فيها العشيرة شجاعة وبسالة في الدفاع عن حقوقها وأراضيها. 

تفاصيل المعركة:

سياق الأحداث: بعد اعتقال وجهاء البوخابور، اجتمع شيوخ العقيدات للتفاوض مع الفرنسيين في دير الزور، لكنهم تعرضوا للاعتقال أيضاً. تصاعد التوتر، خاصة مع نية الوجهاء العبور إلى الضفة اليسرى لنهر الفرات للمقاومة. 

دور النساء: كان للنساء دور مهم في المعركة، حيث قمن بتشجيع المقاتلين، ونقل الماء، وتجهيز الطعام. جُرحت في المعركة فطيم الحسين العبد الله من البوحميد، زوجة سالم العيد، ولعبة العبد الله، والدة يونس العبد السلامة. 

نتائج المعركة: أسفرت المعركة عن مقتل عدد من الجنود الفرنسيين وأسر حوالي 15 جندياً، بينهم مغربي يُدعى شمس. تم تبادل الأسرى لاحقاً بين الطرفين. 

نضال البوسرايا ضد الفرنسيين

عُرفت عشيرة البوسرايا بمقاومتها الشرسة للاستعمار الفرنسي. شاركت في عدة مواجهات، منها الهجوم على الحامية البريطانية في دير الزور عام 1919، والتصدي لاحتلال القوات الفرنسية للمدينة عام 1921. كما لعبت دوراً بارزاً في ملحمة عين البو جمعة عام 1925، حيث تكبدت القوات الفرنسية خسائر فادحة على يد مقاتلي البوسرايا.

رمضان شلاش: القائد والمناضل

يُعد رمضان باشا الشلاش من أبرز الشخصيات الوطنية في تاريخ سوريا. وُلد عام 1882 في قرية الشميطية بدير الزور، ونشأ في كنف والده شلاش العبد الله السليمان، شيخ عشيرة البوسرايا. تلقى تعليمه في مدرسة العشائر بالأستانة، ثم التحق بالكلية الحربية السلطانية، وتخرج منها عام 1905 برتبة ملازم.

بعد اندلاع الثورة العربية الكبرى، انضم شلاش إلى الجيش العربي، وعُيّن حاكماً عسكرياً على قضاء الفرات والخابور عام 1919. قاد مقاومة ضد القوات البريطانية في دير الزور، حيث نجح في تحرير المدينة بعد معارك ضارية. كما شارك في الثورة السورية الكبرى ضد الفرنسيين، ونُفي إلى بيروت حتى عام 1937، ثم عاد ليواصل نضاله حتى جلاء الفرنسيين عن سوريا عام 1946.

إن تتبّع مسار عشائر دير الزور، وفي طليعتها قبيلة العقيدات بفروعها العديدة، يكشف عن فصل أصيل في تاريخ سوريا، لطالما غُيّب عن الأضواء الرسمية لكنه ظل حاضراً في وجدان الناس وسجلات الأرض. فمن ضفاف الفرات إلى تخوم العاصمة، لم تكن هذه العشائر مجرّد مجموعات اجتماعية تقليدية، بل كانت رافعة من روافع الكفاح الوطني، ومدماكاً في بناء الدولة والمجتمع، ومثالاً حياً على قدرة الهوية العشائرية على الاندماج دون انصهار، والصمود دون انغلاق.

وحين نقرأ أسماء مثل البوخابور والبوسرايا، أو نتوقف عند سيرة رجل بحجم رمضان الشلاش، فإننا لا نسترجع حوادث ماضية فحسب، بل نعيد الاعتبار لزمن كانت فيه العشائر في مقدمة الصفوف، تقاتل وتزرع وتبني وتُسهم، لا على هامش الوطن، بل في قلبه.

فما بين الفرات وبردى، سطّرت العشائر الديرية صفحات من الكرامة والانتماء، باقية في الذاكرة الوطنية كشاهدٍ على أن الوطن يُصنع بأهله، مهما اختلفت لهجاتهم، وتنوّعت مضاربهم، ما داموا يجتمعون على حب الأرض والحرية.