bild 18.03.25 um 16.01-1
من مراسم تشييع شهداء ملحمة الرصافة في مدينة موحسن

في صباح 18 آذار/مارس 2012، شهد حي الرصافة في مدينة دير الزور واحدة من أكثر المعارك دموية خلال الثورة السورية، حيث خاض مقاتلو الجيش السوري الحر مواجهة شرسة ضد قوات النظام السوري في معركة ستُعرف لاحقاً بـ“ملحمة الرصافة”. لم تكن هذه المعركة مجرد مواجهة مسلحة، بل كانت تجسيداً للصمود والتضحية، وحدثاً مفصلياً أسهم في إعادة رسم المشهد العسكري في المحافظة.

خلفية الأحداث

مع تصاعد الاحتجاجات ضد النظام السوري في عام 2011، أصبحت دير الزور واحدة من أهم مراكز الحراك الشعبي، وسرعان ما انتقل هذا الحراك إلى مرحلة المقاومة المسلحة. شهدت المحافظة موجات من الانشقاقات داخل الجيش السوري النظامي، وكان لمدينة الموحسن دور محوري في هذا التحول، حيث تشكلت منها كتيبتي “عمر بن الخطاب” و”عثمان بن عفان”، اللتان انضمتا إلى الجيش السوري الحر وبدأتا تنفيذ عمليات عسكرية ضد قوات النظام في دير الزور ومحيطها.

مع تزايد هجمات الجيش الحر، استشعرت قوات النظام خطر التمرد المسلح في المدينة، وبدأت بحملة عسكرية واسعة النطاق تهدف إلى القضاء على المجموعات المسلحة المعارضة. وفي هذا السياق، وصلتها معلومات استخباراتية عن تمركز مجموعة من مقاتلي الجيش الحر داخل مبنى سكني في حي الرصافة، مما دفعها إلى التحرك لشن عملية أمنية واسعة.

تفاصيل المعركة

في ساعات الصباح الأولى من 18 آذار/مارس 2012، فرضت قوات النظام طوقاً أمنياً مشدداً حول المبنى الذي يتحصن فيه نحو 40 مقاتلاً من الجيش السوري الحر. قاد الهجوم الرائد أيهم الحمد، ابن شقيقة آصف شوكت، أحد أقوى قادة الأجهزة الأمنية في سوريا آنذاك.

بدأت المواجهة بقصف مدفعي مكثف، أعقبه تقدم وحدات المشاة والمدرعات نحو المبنى، ظناً منهم أن القضاء على المجموعة المتحصنة سيكون أمراً سهلاً نظراً للتفوق العددي والعتادي. إلا أن المقاتلين داخل المبنى قرروا القتال حتى آخر نفس، وأظهروا مقاومة بطولية، مستخدمين الأسلحة الخفيفة والقذائف الصاروخية في مواجهة الدبابات والمجنزرات.

استمرت المعركة لساعات طويلة، حيث تمكن مقاتلو الجيش الحر من إلحاق خسائر كبيرة في صفوف القوات المهاجمة. ومع اشتداد الاشتباكات ونفاد الذخيرة، بدأت الكفة تميل لصالح قوات النظام، التي تمكنت في النهاية من اقتحام المبنى بعد أن استُشهد جميع المقاتلين داخله.

خسائر الطرفين

خسائر الجيش السوري الحر:

21 شهيداً، بينهم 18 من موحسن، واثنان من حلب، وواحد من اللاذقية.

استُشهد قسم من المقاتلون بعد قتال شرس حتى آخر طلقة، حيث فضلوا المواجهة حتى النهاية بدلاً من الاستسلام.

خسائر قوات النظام:

تكبدت القوات المهاجمة خسائر فادحة، حيث قُتل ما يقارب 80 جندياً في المواجهة.

كان من بين القتلى الرائد أيهم الحمد، قائد الحملة، وابن شقيقة آصف شوكت، ما شكل ضربة معنوية كبيرة للنظام.

مقتل الحمد أثار غضباً واسعاً داخل الأجهزة الأمنية، ما دفع النظام إلى الانتقام بوحشية بعد انتهاء المعركة.

ما بعد المعركة

بعد سقوط آخر المقاتلين، دخلت قوات النظام إلى المبنى وقامت بجريمة بشعة، حيث ألقت جثث الشهداء من الطوابق العليا أمام أعين الأهالي، في محاولة لترهيب السكان وكسر روح المقاومة لديهم.

ورغم الممارسات الوحشية، نجح الأهالي ووجهاء المنطقة في الضغط على قوات النظام لتسليم جثث الشهداء إلى ذويهم، ليتم تشييعهم في جنازة مهيبة في مدينة موحسن، شارك فيها الآلاف، في مشهد كان أكبر تحدٍّ للنظام في تلك الفترة، إذ لم يكن بوسعه منع الأهالي من إظهار دعمهم العلني للمقاومة.

تأثير المعركة على الثورة في دير الزور

زيادة الانشقاقات العسكرية

أدى العنف الوحشي للنظام بعد المعركة إلى ارتفاع كبير في حالات الانشقاق عن الجيش السوري، خصوصاً بين الجنود والضباط المنتمين إلى دير الزور.

خلال شهر واحد فقط بعد المعركة، انشق أكثر من 450 عنصراً وضابطاً من قوات النظام في المحافظة، ما أدى إلى إضعاف سيطرته هناك.

تعزيز الروح القتالية لدى الثوار

أصبحت ملحمة الرصافة رمزاً للصمود، وألهمت الكثيرين لمواصلة الكفاح المسلح.

زادت من قناعة المقاتلين بأن المواجهة مع النظام هي الخيار الوحيد، وسرّعت من عمليات السيطرة على مناطق واسعة من ريف دير الزور.

تسارع فقدان النظام للسيطرة على المحافظة

بعد هذه المعركة، بدأ الجيش الحر بتكثيف هجماته، ما أدى إلى تحرير أجزاء كبيرة من الريف الشرقي.

استمر الزخم حتى عام 2013، حيث بدأ النظام يفقد السيطرة تدريجياً على المدن الرئيسية في دير الزور.

ملحمة الرصافة في الذاكرة الثورية

حتى اليوم، تبقى ملحمة الرصافة واحدة من أبرز المعارك البطولية التي خاضها الجيش الحر في وجه النظام السوري. لم تكن مجرد معركة، بل كانت تعبيراً عن إرادة لا تُقهر، وعن جيل قرر الوقوف في وجه الطغيان رغم كل التحديات.

رغم مرور السنوات، لا تزال ذكرى الشهداء حاضرة في وجدان أبناء دير الزور، حيث يتم إحياء ذكراهم سنوياً في مدن وبلدات المحافظة، كتذكير بما قدموه من تضحيات في سبيل الحرية.

لقد أثبتت ملحمة الرصافة أن البطولة لا تُقاس بعدد المقاتلين أو قوة السلاح، بل بالعزيمة والإصرار على تحقيق العدالة والكرامة، مهما كان الثمن.